الصين ودعم المساعي العربية لوقف العدوان على غزة
عملية طوفان الأقصى انتهت في يومها الأول، وأن الفلسطينيين انتصروا فيها، بعد أن لقّنوا الجيش الصهيوني، "الذي لا يُقهر"، درساً في قوة الحق وحتمية انتصاره على الباطل.
-
هل باتت الوساطة الصينية مطلباً أميركياً؟
مر شهر ونصف شهر على عملية طوفان الأقصى، وما زالت حكومة الحرب الإسرائيلية مستمرة في صب نار حقدها على أطفال غزة المحاصرين، مرتكبة في ذلك أبشع جرائم القرن أمام مرأى ومسمع من العالم كله.
شهر ونصف شهر من القتل والتدمير الممنهجَين، واللذين بات من الواضح أن لا جدوى فيهما، فلن تستطيع حكومة الاحتلال استعادة هيبتها التي كُسرت في عملية طوفان الأقصى. المشكلة الثابتة والراسخة أمام حكومة الاحتلال هي أنها لن تستطيع تغيير نتيجة المعركة مهما حققت من إنجازات، سواءٌ أكانت تلك الإنجازات حقيقية أم وهمية.
رفع سقف المطالب والتوقعات زاد في المأزق الذي تعيشه حكومة الحرب الصهيونية، وبات رئيس وزراء الكيان في حاجة إلى من يُنزله من أعلى الشجرة، لكنه لن ينزل إلى الأرض بكل تأكيد، بل إلى السجن الذي ينتظره بعد أن بات مسؤولاً عن كثير من الجرائم، وفقاً لوجهة نظر المستوطنين.
الحقيقة المُرة، التي لا يريد الكيان تصديقها، هي أن عملية طوفان الأقصى انتهت في يومها الأول، وأن الفلسطينيين انتصروا فيها، بعد أن لقّنوا الجيش الصهيوني، "الذي لا يُقهر"، درساً في قوة الحق وحتمية انتصاره على الباطل، مهما امتلك هذا الباطل من قوة، طال الزمن أو قصر.
وعلى الرغم من اجتماع الآراء على حقيقة هذا الانتصار العسكري، فإن أصواتاً خافتة ومتخاذلة باتت تتخوف من تبعات هذا اليوم، وما سيترتب عليه من نتائج كارثية على الفلسطينيين والمنطقة عموماً، على حدّ تعبيرهم، بمعنى أننا غير قادرين على تحويل هذا "النصر العسكري" إلى "انتصار سياسي"، من خلال التفاوض من موقع القوة هذه المرة مع حكومة الكيان الصهيوني المتطرفة.
ربما المخاوف مبرَّرة استناداً إلى دروس التاريخ، التي تثبت لنا عدم قدرة الجانب العربي على "الاستثمار في انتصاراته العسكرية"، والتي تحولت في كثير من الأحيان إلى "هزائم سياسية".
فبعد حرب أكتوبر 1973، والتي كانت انتصاراً كبيراً للعرب، كانت نتيجتها (سياسياً) خروج مصر من معادلة الصراع العربي - الصهيوني عبر توقيعها اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني في عام 1979.
خروج مصر من الصراع غيّر منحى هذا الصراع، وأضعف العرب كثيراً، ورفع معنويات الصهاينة، الذين أدركوا أن "لا حرب من دون مصر". لذا، سعوا جاهدين لتحييدها. ثم كان تفكك الاتحاد السوفياتي وهزيمة العراق في عام 1991، بمثابة إعلان استحالة تفكير العرب في مواجهة "إسرائيل" عسكرياً. فالاتحاد السوفياتي كان الداعم الحقيقي للعرب (سياسياً وعسكرياً) في حروبهم ضد "إسرائيل"، والجيش العراقي كان الجيش الرابع على مستوى العالم، وهو الجيش الذي كانت "إسرائيل" تحسب له ألف حساب.
الأهم من ذلك كله، بل الأخطر، بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، كان ضياع البوصلة العربية، فلم تعد دول عربية كثيرة تعرف من هو عدوها الحقيقي، فباتت إيران، من وجهة نظرها، هي العدو لا "إسرائيل".
على الرغم من أن لإيران ثقلاً كبيراً (سياسياً وعسكرياً)، وهذا الثقل قادر على تغيير كفة الصراع لمصلحة العرب لو استطاعوا استثماره، فإن ذلك لم يحدث، وبدأت تتشكل سياسة المحاور في المنطقة، وانقسمت المنطقة إلى محورين: "محور المقاومة" و"محور الاعتدال". المشكلة أن محور الاعتدال لم يكن اعتداله في كيفية التعاطي مع "إسرائيل"، بل بات، في كثير من الأحيان، يقف في الجانب المعادي لمحور المقاومة، وهنا باتت المشكلة.
هذه المشكلة غذّتها الولايات المتحدة، واستثمرتها "إسرائيل"، بصورة كبيرة، ودفع ثمنها العرب والإيرانيون، إلى حد كبير. بعد ذلك ظهر ما يمكن أن نسميه "صحوة"، لدى الجانبين، فحدث التقارب الإيراني السعودي برعاية صينية، والذي انعكس، بصورة كبيرة، على انفتاح عربي على سوريا، وحلحلة لعدد من الملفات العالقة في المنطقة. هذا الاتفاق، قد لا يكون مبنياً على "عامل الثقة"، التي يبدو أنها ما زالت غير مترسخة لدى الطرفين، لكنها، بكل تأكيد، لم تعد غائبة بينهما، وهي آخذة في التشكل والنمو بصورة كبيرة، على ما اعتقد.
ثم جاءت عملية طوفان الأقصى لتختبر ذلك الاتفاق، فكانت نتيجتها التوافق في المواقف هذه المرة بين المحورين (المقاومة والاعتدال)، فغابت لغة التخوين وتقاذف الاتهامات، وبتنا نشهد موقفاً واحداً داعماً لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، ورفض المجازر الصهيونية وإدانتها. عُقدت القمة العربية الإسلامية في الرياض في الـ11 من تشرين الثاني/نوفمبر، وعلى الرغم من أنها لم تعكس تطلعات الشعوب العربية والإسلامية، فإنها جسدت موقفاً واحداً تجاه حكومة الاحتلال، وهذا إنجاز كبير يمكن البناء عليه لاحقاً.
اطلبِ السلام ولو في الصين
قررت القمة العربية الإسلامية الطارئة، والتي استضافتها الرياض، في الـ 11 من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري تشكيل لجنة وزارية تضم في عضويتها وزراء خارجية خمس دول عربية (السعودية – الأردن – مصر – قطر - فلسطين)، وثلاثة وزراء خارجية دول إسلامية (تركيا – إندونيسيا - نيجيريا)، بالإضافة إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية، والأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي، من أجل "بلورة تحرك دولي لوقف الحرب على غزة، والضغط من أجل إطلاق عملية سياسية جادة وحقيقية لتحقيق السلام الدائم والشامل، وفق المرجعيات الدولية المعتمدة". ومن المقرر أن تبدأ اللجنة جولتها من الصين، وقد تشمل زيارة سائر الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن.
اختيار الصين نقطة البداية يحمل معاني كثيرة، ويعبّر عن ثقة تلك الأطراف بالصين وقدرتها على أداء دور الوساطة في هذا المجال، وخصوصاً أن الموقف الصيني تجاه القضية الفلسطينية كان موقفاً ثابتاً وداعماً لها.
وكانت الصين قدّمت عدة مبادرات من أجل حل القضية الفلسطينية قبل عملية طوفان الأقصى، لكنها لم تحظَ بتشجيع أميركي، ولا قبول إسرائيلي.
واستقبلت بكين الرئيس الفلسطيني محمود عباس خمس مرات، وهو أكبر عدد زيارات لأحد رؤساء الدول للصين، وهو ما يشير إلى أهمية القضية الفلسطينية بالنسبة إلى الصين.
كما أقامت الصين حديقة ونصباً تذكارياً للرئيس ياسر عرفات في بكين، كونه رمزاً من رموز القضية الفلسطينية، وزعيماً من زعماء حركات المقاومة ضد الاحتلال.
هل باتت الوساطة الصينية مطلباً أميركياً
بعد عملية طوفان الأقصى، كان لافتاً تصريح وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، والذي ناشد فيه الصين استخدامَ نفوذها في الشرق الأوسط، وأداء دور التهدئة والحيلولة دون توسع نطاق الحرب هناك.
المشكلة أن منطقة الشرق الأوسط كانت تاريخياً منطقة نفوذ أميركي، كما سعت الولايات المتحدة لاحتكار ملف الوساطة في الصراع العربي الصهيوني ليبقى في يدها، انطلاقاً من هدفها المعلن ورؤيتها الاستراتيجية، التي صاغها وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، الذي قال: "ليس هدفنا إيجاد حل للمشكلات في الشرق الأوسط، لكن هدفنا هو الإمساك بخيوط الحل".
وعندما سمحت الولايات المتحدة للصين بأداء دور الوساطة بين إيران والسعودية، كانت تراهن على فشل الدور الصيني في تلك المهمة.
نجاح الصين في المصالحة السعودية الإيرانية شجع بكين على مزيد من الانخراط في القضايا السياسية في الشرق الأوسط، والتي باتت ضرورة بالنسبة إلى بكين، نظراً إلى تعاظم مصالحها في المنطقة.
السياسة الصينية عقلانية، بمعنى أنها تدرك أنه لا يمكن تحقيق أي تقارب بين "إسرائيل" والفلسطينيين إلّا إذا كانت هناك موافقة أميركية، وإرادة إسرائيلية، ومباركة، عربياً وإيرانياً.
كما أن بكين لن تقدم على أداء دور الوساطة إلا إذا رأت أن هناك إمكاناً كبيراً في نجاحها في ذلك، فهي لا تريد أن يُحسَب عليها أي فشل سياسي.
تغير في الموقف الإسرائيلي تجاه بكين
على الرغم من أن العلاقات الصينية الإسرائيلية علاقات حديثة العهد، بحيث بدأت العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين في عام 1992، فإن تلك العلاقات نمت وتطورت بسرعة كبيرة، لكنها تأثّرت بعدة عوامل، أهمها الموقف الأميركي المعادي لبكين، والذي كانت حكومة الكيان الصهيوني مضطرة، في كثير من الأوقات، إلى الاستجابة له وعدم التقارب مع الصين.
كما تأثرت تلك العلاقات بالحرب في أوكرانيا والموقف الصيني تجاهها، والدعم الصهيوني لأوكرانيا في تلك الحرب. كذلك، كان هناك مواقف إسرائيلية معادية للصين، مثل موقف "إسرائيل" تجاه تايوان، والحديث عن قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في الصين، وهي قضايا تَعُدّها بكين شأناً داخلياً ترفض النقاش فيه.
وقبل عملية طوفان الأقصى، جرى الحديث عن زيارة لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لبكين، لكنها لم تتم نتيجة للأسباب السابقة.
ومع عملية طوفان الأقصى، كان الموقف الصيني واضحاً في الوقوف مع الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، وتأكيد "حل الدولتين"، وهو ما جعل هذا الموقف يتعرض لكثير من الانتقادات الأميركية والغربية والصهيونية.
على الرغم من عدم الارتياح الإسرائيلي إلى مواقف بكين، فإن حكومة الكيان الصهيوني تَعي وتدرك جيداً أهمية التعاطي مع الصين، التي باتت اليوم القوة الأكثر حظاً في التربع على قمة الهرم الدولي، وأن المسألة مسألة وقت فقط، وخصوصاً أن الصهاينة يعون جيداً أهمية التعاون والتنسيق مع القوة الأكبر في العالم، ويجيدون القفز على الحبال، والانتقال في تقديم الولاءات من دولة إلى أخرى، خدمةً لمشروعهم الاستعماري الكبير.
فعندما كانت بريطانيا القوة الأعظم في العالم استطاع الصهاينة الحصول منها على وعد بتأسيس كيانهم المزعوم. لكن الولاء الصهيوني انتقل، بسرعة كبيرة، إلى الولايات المتحدة الأميركية، عندما باتت هي القوة الأعظم بعد الحرب العالمية الثانية، والتي قدمت إلى الكيان الصهيوني دعماً مطلقاً، أوصل "إسرائيل" إلى ما هي عليه اليوم.
لذا، من غير المستبعد أن يسعى الصهاينة للتقرب أكثر إلى الصين، إذا شعروا بأن بكين باتت الأقرب إلى أن تكون عاصمة القرار الدولي في العالم، وخصوصاً في ظل المعطيات التي تشير إلى حتمية تراجع الدور الأميركي. كل تلك المعطيات تعطي بكين أوراقاً تمكّنها من أداء دور الوساطة لإيجاد حل للقضية الفلسطينية، وخصوصاً أنها ستكون المحطة الأولى للجولة الوزارية المنبثقة من القمة العربية الإسلامية.